خطورة هدم المبادئ العقلية
الأستاذ فريد مناوي
في البدء أود أن أُعرّف للقارئ المبادئ العقلية وأن أوضح له أهميتها في بناء العلوم. إن المبادئ العقلية هي قواعد بديهية أساسية يعتمد عليها الخطاب المنطقي. وهي مبادئ تصاغ على شكل بديهيات منطقية. ولكن ماهي البديهيات؟

البديهية (axiom) هي أي قضية تكون مقدمة لاستنتاج تصريحات أخرى منطقياً. مثلاً، قد نصوغ عبارة أو عبارات رياضية نعتبرها بديهيات نبني عليها فيما بعد مُبرهنات ونظريات تشكّل علماً مبنياً على هذه البديهيات. والمُبرهنة (theorem) هي قضية (بمعنى جملة خبرية أي تحتمل الصدق والكذب) قد تم البرهنة عليها وإثباتها، وذلك بناء على افتراضات صريحة أو بديهيات.
والبديهيات – بخلاف المبرهنات – لا يمكن أن تُشتق بمبادئ الاستنتاج، كما لا يمكن إثباتها عن طريق برهان شكلي – ببساطة لأنها مقدمات مفترضة – ليس هناك شيء آخر تستنتج منه منطقيا (وإلا فهي مبرهنات أو نظريات).
تُؤخَذ البديهيات بشكل أساسي على أنها صحيحة ولا تحتاج لإثبات، ومن هنا جاء اسمها (بديهية) فهي تُعتبر بديهية الصحة ضمن هذا النظام الشكلي الذي يتشكل بناءً عليها. بطبيعة الحال هذا لا يمنع التساؤل عن مدى صواب هذه البديهيات خارج النظام الشكلي في بعض الحالات، مما يدفع آخرين لتبني نظام جديد من البديهيات ينتج عنه نظام شكلي جديد وقواعد رياضية أخرى. أحد أشهر الأمثلة بديهيات إقليدس التي تتشكل بناءً عليها الهندسة الإقليدية المستوية، وهي تختلف بشكل جذري عن هندسة مِنكوفسكي أو هندسة ريمان التي تتبنى بديهيات أخرى. وفي بعض نظريات المعرفة (الابستمولوجيات) تُعتبر البديهيات حقائق ذاتية الصحة تستند إليها بقية المعارف.
أرجو المعذرة على هذا الإسهاب في توضيح مفهوم البديهيات، ولكنني أردت بيان أهميتها في بناء العلوم الرياضية والطبيعية. ولأنطلق من هنا لتبيين مدى أهمية المبادئ العقلية.
إن المبادئ العقلية هي قواعد بديهية أساسية يعتمد عليها الخطاب المنطقي. وهي مبادئ تصاغ على شكل بديهيات منطقية. وهي أساسية لضمان عمل العقل الإنساني بشكل سليم.
وهذه المبادئ العقلية – وهي بمثابة البديهيات – مستعملة ضمنياً في كل العلوم وخاصة الرياضيات والفيزياء، حيث أننا نستخدمها في كثير من الأحيان بدون أن نشعر، وأهمها (مبدأ الهُوية) و(مبدأ منع التناقض) و(مبدأ السببية). وهذه القواعد البديهية لا نستطيع الاستغناء عنها أو استبدالها بنظام جديد من القواعد البديهية – مثل الحال مع بديهيات هندسة إقليدس وبديهيات هندسة ريمان – وإلا نتج عنه نظام جديد سفسطائي يهدم العلوم كلها ولا يُبنى عليه أي علم جديد، بل ويمنع أي تقدم فكري.
يُعد مبدأ الهُوية أساسا من أساسيات عمل العقل الإنساني، وهو ينص على أن الشيء هو هو، فليس غيره. قد يتعجب من يقرأ هذا التعريف لأول مرة ويقول إن هذا أمر بديهي وواضح وليس بحاجة للذكر والتوضيح! وفي الحقيقة أوافقه على أن هذا الأمر بديهي وإلا لما سمي مبدأ عقليا! ولكنني أختلف معه في أمر الحاجة له، حيث إن هنالك حاجة ملحة له ضمن مجالات منطقية للرد على أفكار تشكل مدخلا للسفسطة في بعض الحالات، أو السفسطة بعينها في حالات أخرى. فهذا المبدأ مع بديهيته وبساطته لا يُرَدّ على أفكار سوفسطائية إلا به وبالمبدأ الثاني، وهو مبدأ منع التناقض – وينص على أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان معا. إضافة إلى أن لهذين المبدأين دوراً شديد الأهمية في تحصين العلوم الفيزيائية والرياضية.
ولتوضيح أهمية مبدأ الهُوية أعطي المثال التالي: لو قال لك زيد إنه موجود في السوق بينما أنت تراه واقفاً أمامك في البيت، فأنت تعرف أنه كاذب. فبذلك تكون قد طبقت مبدأ الهُوية بدون أن تشعر. فحسب مبدأ الهُوية الشيء هو هو، فليس غيره. فإذا كان هناك "زيدان"، واحد هنا وآخر في السوق، فلا بد أن زيد الذي في السوق غير زيد الذي أمامك، وإلا فمعنى ذلك أن زيداً الذي أمامك هو هو، وفي نفس الوقت هو شخص آخر في السوق! وهذا لا يجوز عقلا لأن الشيء لا يكون إلا نفسه وليس شيئا آخر غيره!
وينص مبدأ منع التناقض، كما أسلفت، على أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً. ومن أمثلة النقيضين الوجود والعدم، فمستحيل عقلا أن يكون عمرو موجوداً ومعدوماً معاً، كما أنه مستحيل أن لا يكون موجوداً وأن لا يكون معدوماً معاً. فإما أن يكون الشيء موجوداً فهو إذن ليس معدوما، أو يكون معدوماً فهو إذن ليس موجودا.
ولكن ما علاقة هذه المبادئ بصيانة علم الرياضيات والفيزياء وغيرهما من الهدم؟ العلاقة أوثق مما يتصور الكثير، فمن الأمثلة المناقضة لمبدأ الهُوية تفسير بعض الفيزيائيين لتجربة الشق المضاعَف (double slit experiment) بأن الالكترون يكون في موضعين معاً، أو أنه يسلك عدة مسارات مختلفة معاً. وإذا سُئل أحد علماء فيزياء ميكانيك الكم ماذا يعني أن الإلكترون يوجد في مكانين مختلفين معاً؟ فقد يجيبك بأن ذلك يعني أن (دالة الموجة الاحتمالية) المتعلقة بالإلكترون تعطي أن احتمالية وجود الإلكترون في مكانين مختلفين ليست صفرا أي أن هنالك احتمالية أن يكون الإلكترون في المكان "أ" بنسبة ٥٠ في المائة مثلا واحتمالية ان يكون في المكان "ب" بنسبة ٥٠ في المائة. وهذه النسب الاحتمالية تأتي من (دالة الموجة) المتعلقة بالإلكترون. فإن قلت له إن كان الامر كذلك فليس معناه أن الإلكترون في مكانين في وقت واحد، قد يقول لك هذا تعبير مجازي. وأود أن أُلفت النظر إلى أن هذه النسب الاحتمالية لا تعبر عن مجرد احتمالات كون الإلكترون في مكان أو آخر لجهلنا بموقع الإلكترون (كقولي مثلا: احتمال أن يكون عمرو في سوريا 50 بالمائة وفي لبنان 50 بالمائة وذلك لأنني لست متأكدا إن كان في لبنان أم في سوريا)، بل مفهوم دالة الموجة الاحتمالية أعمق من ذلك، ولكن حتى الآن لم يدّع أحد من الفيزيائيين فهم الماهية الفيزيائية لهذه الدالة تماماً. فهذه الأمور تُعتبر من فلسفة ميكانيك الكم وهي أمور فيها خلاف ونقاش بين علماء الكم وليست أمورا مسَلّمة عندهم. فيظهر جلياً أن الادعاء بأن الإلكترون يكون في مكانين مختلفين معاً لا يرقى إلى مرتبة اليقين فضلا عن أن يرقى ليُنافي مبدأ بديهياً كمبدأ الهُوية. ويمكن القارئ أن يستزيد في هذا الموضوع بقراءته لمقالي عن نفي كون الإلكترون في مكانين معاً.
أما الأمثلة المنافية لمبدأ منع التناقض، فمنها تجربة قطة شرودنغر (الذهنية) المشهورة في ميكانيك الكم، وهي تجربة ذهنية – أي تجربة يتم تَصوُّرها في الذهن – ولم يستطع أحد أن يطبقها فعلياً فهي فكرة جدلية وليست تطبيقية، بينما نجد البعض يتعامل معها وكأنها أمر يقيني. في هذه التجربة يُتَوصّل إلى استنتاج أن قطةً في صندوق مغلق تحت ظروف معينة تكون في حالة حياة وموت معاً، وهذا يقتضي أن القطة تكون حية (القطة حية = صحيح) وفي نفس الوقت تكون ميتة (القطة حية = خطأ). بينما كل ما في الأمر أن دالة الموجة الاحتمالية للقطة الافتراضية تعطي احتمال كونها حية بنسبة 50 بالمائة واحتمال كونها ميتة بنسبة 50 بالمائة. وميكانيك الكم مليئة بظواهر عجيبة ظاهرها يناقض مبدأ منع التناقض، ولكن في الحقيقة يرجع ذلك إلى تصرّف دالة الموجة الاحتمالية المذكورة أعلاه والتي كما سبق أن بيّنتُ أنه لم يستطع أحد من الفيزيائيين معرفة كنهها تماماً. لكن الإنصاف يُملي أن نشهد لميكانيك الكم بالفضل في كل التطور التكنولوجي الحديث الذي نشاهده. فليس من الحكمة أن نضرب بهذا العلم الباهر عرض الحائط لمجرد تناقضه ظاهريا مع مبدأ عقلي.
ولأوضّح أهمية مبدأ منع التناقض أعطي الأمثلة التالية:
لنفترض أن هناك فرضية رياضية تنص على التالي:
العبارة (أ يقتضي ب) صحيحة
أو بالإنكليزي:
(A implies B ) is true
فإذا هُدم مبدأ منع التناقض يصير بالإمكان القول أيضا بشكل متزامن:
العبارة (أ يقتضي ب) باطلة
أو بالإنكليزي:
(A implies B ) is false
أي أن فرضيةً ما تكون صحيحة وباطلة في نفس الوقت وهذا هدم للرياضيات وللعلوم! فكيف يمكننا افتراض شيء وبرهانه إن كان صحته وخطؤه متساويين؟!
وللتقريب أكثر نأخذ الفرضية التالية من الفيزياء (والتي نعتبرها حقيقة علمية):
ترتفع درجة حرارة الجسم بفعل انتقال طاقة حرارية له من جسم آخر = صحيح
فإذا هُدم مبدأ منع التناقض يصير بالإمكان القول أيضا بشكل متزامن:
ترتفع درجة حرارة الجسم بفعل انتقال طاقة حرارية له من جسم آخر = خطأ
أو بعبارة أخرى: ترتفع درجة حرارة الجسم بفعل انتقال طاقة حرارية له من جسم آخر وفي نفس الوقت لا ترتفع درجة حرارة الجسم بفعل انتقال طاقة حرارية له من جسم آخر. وأي جنون هذا؟ وكيف يمكننا بناء أي علم إذا هدمنا مبدأ عدم التناقض؟
حتى الذين يهدمون مبدأ منع التناقض يُسلّمون به بدون أن يعترفوا، فرفضهم لمبدأ منع التناقض يقتضي أنهم يعتبرونه خاطئاً، وينفون أن يكون صحيحاً، فهم بذلك ينفون اجتماع النقيضين أي أنهم ينفون اجتماع كون المبدأ خاطئاً وصحيحاً معاً! وحتى لو قال أحدهم أن مبدأ منع التناقض يُخرق في حالات استثنائية فقط فيُقال له إذن ما المانع من أن يخرق في كل الحالات؟ فيلزمه أن يبرهن لماذا لا يُخرق في الحالات الأخرى وإلا فهو يتحكم ويكابر.
أما من الأمثلة الدالة على أهمية مبدأ الهُوية، كمن يقول:
4+3=8
ونحن نعلم خطأ هذه العبارة لأن:
4+3=7
أي أن جمع 3 و 4 هو 7 وليس شيئاً آخر، وإلا كنا ندّعي أن 7 هي أيضا 8، بينما حسب مبدأ الهُوية 7 هي 7 وليس شيئا آخر. ومن يدّعي غير ذلك ليس له أن يستعمل الرياضيات وإلا فإنه يناقض نفسه، فالرياضيات مبنية على مبدأ الهُوية، كما أنها مبنية على مبدأ منع التناقض. فمن ناقض الرياضيات كيف يبني عليها علماً آخر كعلم الفيزياء!
في الختام أود أن أوضح أن هذا المقال ليس مخصصاً لتبيين أهمية مبدأي الهُوية ومنع التناقض فقط، وإنما هما مثالان مهمان من المبادئ العقلية التي لا نستطيع هدمها وإلا اقتضى ذلك هدم جميع العلوم الرياضية والفيزيائية وغيرها من العلوم التجريبية لمجرد معارضة بعض نتائجها التجريبية ظاهريا مع بعض المبادئ العقلية. مع العلم بأن هنالك نظريات ناشئة تفسر هذه النتائج التجريبية دون أن تمس المبادئ العقلية. فلنتمهل ونتعقل قليلا ولا نترك خيالاتنا الجامحة تقودنا إلى ما فيه مناقضة للمبادئ العقلية التي يُسَلّم بها كل ذي عقل سليم.
والخلاصة أن البعض يريد هدم بديهيات عقلية بحجة مناقضتها لبعض نتائج العلوم التجريبية التي بُنيت على الرياضيات والذي أُسِّسَ على هذه البديهيات العقلية، فهو بذلك كمن يبني بناءً ثم يهدم أساساته، فكيف إذن يستطيع إكمال هذا البناء؟!
فريد مناوي